عن قصر آت يسجن
نشأةُ قصرِ آت يسجن
إنّ الخوضَ في تاريخِ تأسيسِ قصورِ مزاب أمرٌ شاقّ وصعبٌ للغاية، لغِيابِ النصوصِ التاريخيّةِ المُوَثّقة. فالنصوصُ التاريخيّةُ المتعلّقةُ بهذه القصورِ، والواردةُ في المصادرِ الجُغرافيّة والتاريخيّة من العصرين الوسيط والحديث، قد تعرّضَت إلى ذكر معلومات مقتضَبَةٍ عن هذه القصور، أفادتنا في جوانب دون أخرى. وأمّا ما يتعلّقُ بتاريخ تأسيسها فلا يكادُ الباحثُ يَقِفُ على شيء منها إلّا ما يمكن الوصول إليه بالافتراض والتخمين وبصفة نسبية تقريبيّة.
لقد أجمعت الرواياتُ على أنّ تأسيسَ قصرِ آت يسجن حدثَ بعدَ اتحادِ مجموعةٍ من القرى، كانت منتشرةً على ضِفاف واد انتيسة هي: تافيلالت – ترشين – تلات – أقنونّاي – بوكياو – موركي. ولا تزالُ بقايا بعض تلك القُرى ماثلةً، كقرية ترشين الواقعة في الناحية الجنوبية الغربية من قصر آت يسجن على ربوة في فم شعبة مومّو.
كما قَدِمَ بعضُ الأفراد والجماعات من مَواطِنَ إباضيّةٍ مغاربيّةٍ مُجاورة كـ “وارجلان” وحتّى من بلدان مغاربية نائيّة كـ”جبل نفوسة” في ليبيا.
ولأسبابٍ استراتيجيّة – أمنيّة بالدرجة الأولى – شرعت بعضُ تلك العائلات في الانضمام تِباعا إلى قرية تافيلالت حيث كانت قد تأسّست قبلُ، في حوالي القرنين 5- 6 هـ / 11 – 12 م، بأعلى موضع من قصر آت يسجن الحاليّة.
وكان اتحادُ تلك القُرى – في قصر واحد اشتهر باسم ” آت يسجن” – متأخّرا مُقارنة بالقصور المزابية الأربعة الأخرى. وأقرب تاريخ إلى واقع الأحداث هو منتصف القرن 8هـ /14م . وقد لمّحَ إلى ذلك الشيخ امحمّد بن يوسف اطفيش – رحمه الله – حين نصّ على أنّ آت يسجن “هم آخر الناس اطمئنانا وسكونا لبلدهم الثابت لهم الآن”
ويؤكّدُ تاريخَ عمران آت يسجن، في حوالي منتصف القرن 8هـ / 14م شواهدُ أثريّةٌ، وقرائنُ تاريخيّةٌ ثلاثٌ على الأقلّ:
- – أولا : من جملة شيوخ البلدة المدفونين في مقابر آت يسجن الشيخ محمد بن عبد العزيز بن يحي بن موسى الياجراني رحمه اللهُ، الشهير باسم الشيخ بامحمد، الذي عاش في النصف الثاني من القرن 8هـ /14م ، بحسب “طبقات” الشيخ محمد الباروني المتوفّى سنة 997هـ /1589م، عِلما أنّ إحدى الروايات الشعبيّة المتداولة تذكر أنّ اتحاد تلك القرى كانت على يديه.
- – ثانيا : في النواة الأولى بالمسجد العتيق لقصر آت يسجن بصمةٌ مِعماريّةٌ من العصر الوسيط المتأخّر تتمثّل في عنصر “العقد الحذوي” (fer à cheval) الذي ساد عمائرَ بلاد المغرب العربي في العصر الوسيط، وطبَعَ المِعمارَ الديني المغاربي – بخاصّة – بِطابَعه المتميّز.
- – ثالثا : أقدمُ اتفاق صدر عن مجلس الشيخ باعبدالرحمان الكرثي (ق. 6هـ/12م) جمَعَ عزّابةَ وعوامَّ قصور مزاب الخمسة، مؤرّخٌ في أواخر شعبان سنة 807هـ/ أواخر فيفري 1405م أمضاهُ كاتِبُ المجلسِ الشيخُ حمو بن يوسف، رحمه اللهُ، وهو من مشايخ قصر آت يسجن وقبره في مقبرة تحمل اسمه، بمعنى أنّه في شعبان سنة 807هـ/ فيفري سنة 1405م، كان قصرُ آت يسجن قد تأسّسَ بِصفةٍ قطعيّة.
أمّا عن سنةِ التأسيسِ بالتحديد، فإنّ الاختلافَ واضحٌ بشأنها، ويبقى الفصلُ في التواريخ، التي ذكرها بعضُ الباحثين والمؤرّخين، أمرا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التقصّي والبحث الدقيق.
مدلولُ لفظِ “آت يسجن”
- أولا : “آت يسجن” أو “بني يسجن” أو “بني يزقن” نِسبةٌ إلى قبيلة كانت تحمل هذا الاسم، وتُعَدُّ من القبائل الأولى التي عمّرَت هذا القصرَ، ومَنحَت اسمها له، بعدَ انضمامِ القُرى إلى تافيلالت، وتأسيسِ قصرِ آت يسجن. والدليلُ اللّغوي على أنّه اسمٌ للقبيلة، كونُ التسميّةِ مُركّبةٌ من قِسمين لا يُمكِن فصلُهما عن بعض، ففي لفظةِ “آت” أو “بني” وحدَها دليلٌ ذلك.
ويُؤيّدُ كون تسميّةِ قصور مزاب – بعامّة – حملت أسماء مخطّطيها، ما أوردَهُ المؤرّخُ العارفُ بشؤون البربر: عبدالرحمان ابن خلدون، قائلا عن بلاد بني مزاب: “وبِها قُصورٌ اتخذوها، فسُمّيت باسم من تولّى خطّتها من شعوبهم”.
- ثانيا : وهناك تفسير آخر لتسمية آت يسجن نستفيده من عقد يرجع تاريخ نسخه إلى سنة 1147هـ/ جوان 1734م، وصاحبه اعتمد فيه رواية شفهية أقدم، جاء فيه ما يلي: «ونعلم لكم على ما سمعنا من أبينا، على أولاد باسماعيل، وأولاد يدر، وأولاد موسى، وأولاد خالد أهل نصف، وجدّهم الشيخ عبد الرحمن الكرثي، إذ كانوا في زمان المتقدّم يطعمون عليه، ويدفنون فيه، في مقبرته، في زمان أن كانوا في موركي وتحته»: هذه العشائر ارتبطت تسمية آت يسجن بها عند انتقالها إلى تافيلالت، إذ توسّعت القرية بهم، وتشكّل القصر الجديد، والعقد يترجم تسمية “آت يسجن” الأمازيغية إلى العربية بـ”أهل نصف”، وأقرب تفسير لهذه التسمية، هو موقع القصر بالنسبة للقصور الأخرى، فقصر آت يسجن هو آخر قصر تأسيسا، وموقعه الجغرافي وسطٌ بين القصور التي سبقته، بين تجنينت وآت بنور من جهة، وآت مليشت وتغردايت من جهة أخرى، وجميعها على واد مزاب، وهو الوحيد على واد انتيسة، فكان أن وصفهم غيرهم أنّهم “آت يجدن”، بمعنى أهل نصف، ثمّ ارتضوا هذا الوصف، فأصبح اسما لقصرهم، ونسخ الأصل “تافيلالت”، والله أعلم.