رسالة تاريخيّة: رسالة مفدي زكرياء إلى السيد رئيس الجمهورية الأسبق أحمد بن بلّة، بتاريخ 17 ماي 1965م
تونس 17 ماي 1965م.
الـحــمـد لـلّـه.
ابني العزيز أحمد بن بلة، سلاما وعواطف أبويّة:
أكتب إليك هذه الكلمات الصريحة من تونس، تأكيدا للرسالة التي وجّهتها لك بعاصمة الجزائر منذ أسبوع، بواسطة الأخ هنّي محمد، وأخاطبك في هذه الرسالة بالابن (لا بالأخ، ولا برئيس الجمهورية)، لأسمح لعواطفي الأبويّة العميقة أن تخاطب قلبك بدون (جواز مرور)، و(تأشيرة دخول)، وأبعثها لك بواسطة سفير جمهوريتنا بتونس حتّى أطمئنّ على مصيرها.
وإذا خاطبتك بالابن، فلاعتبارات ثلاث:
أوّلها: أنّي أكبر منك سنّا بكثير.
ثانيا: أنّي أقدم منك نضالا، فقد كنت من الرعيل الأوّل الذي غرس روح الوطنيّة، وبثّ الفكرة الاستقلاليّة بالجزائر سنة 1935م، أيّام كانت الأرض والسماء كلّها ضدّنا، وأيّام كان الكثير من المتصرّفين في مصير الشعب اليوم: إمّا أطفالا في المدارس يردّدون أناشيدي، وإمّا موظفين في إدارات، أو مجنّدين في صفوف، أو لم يولدوا بعد.
ثالثا: لأنّي بحكم الاعتبارين الأوّلين أغزر منك تجربة، وأعرف منك بنفسية الشعب الذي ولد مع ميلاد كفاحي، وعشت معه في مختلف مراحل النموّ الاجتماعيّ، وزدت به دراية في أعماق السجون.
وقبل كلّ ذلك وبعده أخاطبك بالابن، لأنّني أحبّك كأحد أبنائي، وأتوسّم فيك الخير، لما أعهده فيك من نزاهة، وإنصاف، واستعداد لقبول كلمة الحقّ مهما كانت مرّة وأليمة، ومهما حاول الانتهازيّون والوصوليّون تضليلك وتغريرك استغلالا لطيبة قلبك، وإمعانا في تحطيمك بإبعاد المخلصين عنك، وعزلك عن المناضلين الصادقين، وإحاطتك بالعفونات، لتعفين نظامك، والتعجيل به إلى المنحدر الرهيب.
ابني العزيز، قدمت الجزائر يوم 4 ماي هذا، بعدما قضيت شهرين بتونس في إعداد مشروعي (القوميّ الوحدويّ) “تقويم المغرب العربيّ الكبير” الذي هو الآن تحت الطبع. وقد كانت حيرتي عظيمة وأليمة حين وجدت نفسي في عقر داري محاطا بالألغام، محاصرا مطاردا في كلّ مكان، بأسراب من مختلف مصالح الشرطة، تتعقّبني أينما حللت، وتضايقني في مكتبي، في داري، في الشارع، في المطعم، في المقهى، وتلاحقني بسياراتها السوداء بطريقة استفزازيّة، كأنّي من أخطر المجرمين. ولاحظت مع ذلك جوّا خانقا يحيط بي، من دعايات مغرضة كاذبة (موجهة طبعا)، يقوم بها أغرار المخبرين، وأطفال السياسة الارتزاقيّة، فحواها: أنّي تنكّرت لجنسيتي الجزائريّة، واعتنقت الجنسيّة التونسيّة، وأنّني عين من عيون بورقيبة على الجزائريين، وعلى بعض النفايات المأجورة من خصوم بورقيبة الذين اتّخذوا الجزائر وكرا للدسّ والكيد والمناورات، وبثّ التفرقة بين الإخوان، وتسميم جوّ العلاقات بين الأشقّاء، والوشاية لحساب الشرطة بالأحرار المخلصين، والعمل في الكواليس على الإثراء الفاحش في المشاريع التي يموّلها الأجانب بالجزائر بالشركة مع بعض المسؤولين الذين انتزعوا ثقتكم الغالية بطريق النصب والتمويه.
وإنّه لمن المؤلم حقّا، والمخجل في آن واحد أن أجد نفسي في هذا الجوّ البوليسيّ الإرهابيّ بعد ثلاث سنوات من الاستقلال، وأن يتركني أتذكّر أيّام الإرهاب التي عشتها قبل اعتقالي أيّام الثورة، وكيف كنت أعيش في الكتمان، وأتحايل على البوليس، لأنجو بحريتي وحياتي؛ ويذكّرني فترة فراري من السجن، والأيّام المرعبة التي عشتها متنكّرا حتّى فزت بالنجاة للمغرب الشقيق وسط صناديق الطماطم والبطاطس.
نعم أليس من المخجل أن يكون مقابل كفاحي من أجل حرية بلادي طوال ثلاثين سنة هذا النكران، وهذا الجحود، وهذا الظلم الصريح، في بلاد تفانيت في حبّها، وتغنّيت طوال حياتي بأمجادها، ورفعت رأسها بأناشيدي، وأغاريدي، ومحاضراتي، وكفاحي القلمي، وتوّجتها في العالمين؛ وهل أصبحت الجزائر تضيق على الأحرار إلى هذا الحدّ، ويتّسع صدرها للعورات والحشرات والنكرات والعاملين في الظلام من قدماء الجواسيس، والخونة العملاء، وذوي السوابق الإجراميّة من أبناء الشوارع القذرة، بينما جلّ المخلصين وأحرار الضمير هاجروا للخارج، وحتّى لبلاد العدوّ القديم، بل واختاروا بدافع اليأس والقنوط الانتحار، واعتناق جنسية جلاّدهم السابق.
فماذا الذي تنقمونه من مفدي زكرياء؟ التجنّس بالجنسية التونسيّة. إنّي إلى الآن لم أفكّر في التخلّص من جنسيتي، ولم ألاحظ من إخواني التونسيّين النبلاء أيّ تلميح، أو تصريح في الإغراء بالتونسيّة، معتبرين إياي أحدا منهم ما دمت حرّا من أحرار بلد شقيق، وما دمت أعمل لصالح الوطن الكبير (المغرب العربيّ الموحّد)، على أنّي ربّما فكّرت في وضعية جديدة إذا ما اضطررت يوما بواسطة الإعنات والاستفزاز إلى اختيار مصيري. وهل الجنسية التونسيّة غير جنسية عربيّة إسلاميّة مغربيّة؟
ثمّ ماذا؟ ألأنّي صديق الرجل العظيم الحبيب بورقيبة؟ ألأنّي مدحته؟ ألأنّي لبّيت دعوته لزيارة تركيا؟ ألأنّه ساعدني على اقتناء صالة سينما ابتغاء الرزق الحلال الذي حرمت منه في الجزائر، وأُسعِد به كلّ من هبّ ودبّ من المرتزقة والنصّابين والمتمسّحين بالأعتاب؟
نعم، أنا صديق بورقيبة بكلّ افتخار واعتزاز، وهل بورقيبة عدوّ؟ أليس أخا شقيقا، وزعيم أمّة شقيقة تربطنا بها علاقات ووشائج وأوفاق.
أعرف الأخ بورقيبة من ثلاثين سنة، وناضلت في صفوف الحزب الدستوريّ التونسيّ من عهد دراستي سنة 1926، وما عرفت في الرجل (الذي أحبّه وأقدّسه) إلاّ النزاهة، والإخلاص، والصراحة، ونكران الذات، وعظمة النفس، ورجحان الفكر، ونصاعة الضمير، وحبّ الخير للإنسانيّة جمعاء، وللمغرب العربيّ خاصّة.
وعرفت تونس في عهد طفولتي، فعشقتها، ولم أجد بين أهليها إلاّ كلّ احترام، وإكبار، ودماثة أخلاق، وصدق عاطفة. وإذا ما فضّلت غالب إقامتي في تونس، فلأنّها البلد الوحيد الذي يتمتّع بالاستقرار والطمأنينة، وانسجام القمّة بالقاعدة، وهيبة الدولة، والعزم البنّاء، بين جميع البلاد العربيّة المستقلّة قديما وحديثا. ووجدت من بورقيبة، ومن شعبه كرامتي الموفورة، وتقدير مواهبي، لأنّ لغتنا التي نفهمها واحدة، وتكويننا الذهنيّ واحد، والتجاوب الروحيّ بيننا متبادل عميق؛ بينما أعيش في بلادي الجزائر، وأنا في بيداء قاحلة، مليئة بالوحشة والاغتراب، وأتقلّب فوق جحور من عقارب وثعابين، فلا راحة فكري مضمونة، ولا كرامتي محترمة، ولا قيمتي معترف بها، ولا حرّيتي مصونة، ولا المثل العليا التي تعذّبت من أجلها مَرْعِيَّةٌ، ولا لقمة العيش الحلال ميسورة، وليس من الغريب أن يعتبر المسلم بلاد الإسلام أينما كانت بلاده، وقديما قيل: «وطن المؤمن يمتدّ حيث تمتدّ عقيدته».
ولو اجتمع خصومي كلّهم في صعيد واحد، وحاولوا أن يسجّلوا عليّ موقفا واحدا مع ما تسمّونه “المعارضة” لأعجزهم ذلك، لأنّي أسير في حياتي بهدي العقل الرصين، ولا أحاول (مهما تعفّنت الأوضاع) تعقيد مهمّة العاملين، والحكم على تجربةٍ، للزمان وحده الحكم على نجاحها أو فشلها، وللشعب وحده الحكم على مصيرها.
والجزائريّون أمام الأوضاع الراهنة على سبعة أنواع:
1) جزائريّون مقتنعون بصواب الوضع عن عقيدة، وسائرون مع الركب إلى النهاية، لأنّ الأوضاع تتماشى مع صبغتهم المستوردة.
2) جزائريّون غلبتهم معدتهم، فهم غير راضين بالوضع في أعماقهم، ولكنّهم يسايرونه ابتغاء لقمة العيش، ويعملون كالآلات الصمّاء، لأنّهم جبناء، ولأنّهم أعجز من أن يحصلوا على لقمة العيش إلاّ على حساب ضمائرهم.
3) جزائريّون منافقون يتظاهرون بالولاء، ويحطّمون في الخفاء.
4) جزائريّون معارضون يعملون على قلب النظام علانية.
5) جزائريّون غاضبون وصامتون، أو مهاجرون.
6) جزائريّون غاضبون، ويعملون في الخفاء ضدّ النظام القائم.
7) جزائريّون مغاضبون، ولا يعارضون، ولا يسكتون، ولا يعملون في الخفاء، ولكنّهم يجابهونكم بالواقع المرير، بطريقة النصيحة المباشرة، ويعملون لإصلاح أخطائكم، وإرشادكم لطريق الصواب، متوسّمين فيكم القابليّة والاستعداد لقبول كلمة الحقّ مهما كانت مريرة، والإنصاف مهما كان عسيرا.
ومن هذه الطائفة الأخيرة مخاطبك هذا، وهو الأسلوب الذي عهدته منّي برسائلي المتعدّدة الموجّهة لك رأسا، من يوم الاستقلال إلى الآن، يشجّعني على هذه الطريقة اعتزازكم بالفاروق عمر بن الخطّاب، واستشهادكم به في كلّ مناسبة، ولا شكّ أنّكم على علم بكلمات عمر المأثورة: «أيّها الناس، من رأى منكم في اعوجاجا فليقوّمه، فقال له أحد محبّيه: واللّه لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا». وأمّا أنا فقد رأيت فيك اعوجاجا، ففضّلت أن أحاول تقويمه بالخطاب المباشر، وهي درجة تكاد تكون من أضعف الإيمان.
وإنّ سيدنا عمر الذي جعلتموه قدوة، قال له رسول كسرى، وقد وجده نائما على كثيب من رمل: «عدلت يا عمر، فأمنت، فنمت».
وإنّ وضعا لا يعتمد على الإقناع بطريق توعية الجماهير لا يمكن أن يظفر بالاستقرار المفروض بالبوليس والإرهاب.
وقد قال (انقلز) شارح كتاب لينين: (الاشتراكيّة تنبثق من القاعدة بطريق الاقتناع، وإلاّ فهي فاشلة)، وقال:«الاشتراكيّة ترتكز على الإنتاج، فإذا انعدم الإنتاج، انعدمت الاشتراكيّة».
وأنت تعلم بلا شكّ الحالة المهولة التي آل إليها اقتصاد البلاد، والعجز المفضوح الذي تتكبّده ميزانية الدولة من جرّاء أخطاء، أو عبث جلّ لجان التسيير الغير الواعية.
وأنت لا تجهل التدهور المعنويّ والخلقيّ الذي جرف الشباب، ونخر عظام المجتمع، وقضى على ضمائر كثير من المسؤولين.
وأنت مطّلع -ولا شكّ- على ما شاع في الأجهزة الحسّاسة من انحلال، وذيوع الرشوة، والفضائح الماليّة، والفساد.
وأنت لا تجهل انعدام الثقة بين أفراد المجموعة، وبين المجموعة والمتصرّفين في مصيرها.
وأنت على علم بأنّ لكلّ جزائريّ ملفّا ضدّ أخيه الجزائريّ الآخر، وأنّ الكلمة الأخيرة للدسائس والمناورات.
وأنت تعلم العناصر السامّة المتوغّلة خلال الديار، المتسلّلة من الأقطار الشقيقة، والعاملة سرّا وعلانية على توسيع شقّة الخلاف، وإشاعة القطيعة بين الإخوان الأشقّاء.
وقبل وبعد أنت تعلم أنّ الجزائر أصبحت مركزا للجاسوسيّة العالميّة، وأنّ أبناء الجزائر أراد منهم الوضع المتعفّن أن يكونوا شطرين، كلّ شطر يتجسّس على الشطر الآخر.
وأنت تعلم أنّ البلاد في حاجة إلى التصنيع، والتعريب، وتنشيط السياحة، وخلق موارد جزائريّة لإنعاش الاقتصاد المنهار، وأنّ ميزانية التجهيز تكفي لأن تجعل من بلاد الجزائر جنّة فوق الأرض، بما وهبتها الطبيعة من إمكانيات، وما يكمن فيها من طاقات، ولكنّ شيئا من ذلك لم يقع، لأنّ جلّ المسؤولين إمّا عاجزون، وإمّا مشغولون بتكوين (الملفّات)، وبقيت ميزانية التجهيز مجمّدة:
كالعيس في البيـداء يـقـتلـها الظما، والــمـاء فـوق ظهـورهـا محـمول.
أمّا ميزانية التسيير فقد سخّر أعظمها لإنعاش جوّ المراقبة البوليسيّة، والإرهاب الفظيع.
هذه يا بنيّ الحقيقة المرّة التي يفرض عليّ ضميري أن أصارحك بها على عادتي معك، ولا أخاف في الحقّ تهديدا ولا وعيدا.
ولا شكّ أنّك تطمئنّ إلى هذا النوع من المصارحة النزيهة، ومن الكفاح النظيف المباشر الذي لم يتّخذ صبغة التشهير بالصحف، ولا في الندوات، ولا ثالث لنا في هذه الكلمات إلاّ سفيركم المتمتّع بثقتكم الغالية.
وأؤكّد لكم في النهاية أنّني لا أرجو منكم جزاء ولا شكورا، ولا أطلب منكم جاها، ولا منصبا، ولا مالا، فإنّني والحمد للّه أعيش بكدّ يميـني، وعرق جبيني، وكرامتي المصونة، بين قوم أحبّهم ويحبّونني، ويقدّرون رصانتي وتعقّلي ونزاهتي، ويكبرون جهادي ومواهبي.
إنّما أطلب منك شيئا واحدا هو أن تعقد جلسة مع ضميرك على ضوء هذه الرسالة، ولا شكّ أنّ ضميرك وحده سينير أمامك طريق الحقّ، فتتبعه، وتكبر الرجل الذي صارحك به في نطاق النصيحة المباشرة، والذي لا يزال يحبّك، ويحبّ لك كلّ خير، ويرجو من اللّه لك الهداية والتوفيق.